درء تعارض العقل والنقل
في مسألة تطور الخلق
محمد المهدي الحسني
2010
|
.... كلمات تسعى إلى تيسير مخاض المراجعات العلنية للمعتقد الذي يزعم أن الخلق خلق دفعة واحدة ولم يتطور، والذي أضحى من المقدسات عند بعض الدعاة، يكفرون كل من لا يؤيده!
لا ننكر أن دعاتنا الأفاضل هم النوابغ في مجال تخصصهم، لكن تهافتهم يظهر جليا عند خوضهم بغير علم في مجال تخصص غيرهم. مثال ذلك موقف الشيخ القرضاوي الذي قال " إن الإنسان خلق خلقا مباشرا ولم يتطور عن أي نوع من الأنواع الأخرى وهذا يتفق مع النظرية القرآنية..."
|
درء تعارض العقل والنقل
في مسألة تطور الخلق
محمد المهدي الحسني
الرباط - 2010
المحتوى
درء تعارض العقل والنقل
في مسألة تطور الخلق
تمهيد
منذ قرنين من الزمن بعد ظهور النظرية الداروينية، لا يزال الجدل قائما بن العلماء حول مسألة تطور الخلق. فهناك نقاش صاخب بين علماء الدين فيما بينهم ، وهناك حوار ساخن داخل أسرة أصحاب العلوم الطبيعية، وهناك جدل حاد بين هؤلاء وأولئك. وكمتتبع للحوار الدائر بين الطوائف، تشكل لدي ارتسام مرحلي، يضعف حجة بعض العلماء المسلمين المتوثبين لهدم بناء النظرية، وعجبت لتعلقهم بالأسلوب الخطابي، ظنا منهم أن أهل التخصص سيقبلونه كبديل للنظرية. وفي المقابل، شعرت بقوة حجة المدافعين عن النظرية ورجاحة كفتهم، لا لشيء سوى أنهم برعوا في توظيف إنجازات العلوم المختصة الباحثة في المسألة، بينما فرط في ذلك غيرهم ببلادة غريبة لا يمكن تفسيرها إلا بالجهل أو بالجحود الذي يجره التعصب للرأي ولو ظهر للعيان باطل الدعوى، وسخافة الفتوى.
نسبية النظرية ضد قطعية الجهل:
نساهم عبر هذه الورقات في النقاش حول الموضوع، ونوجهها إلى بعض العلماء، خاصة منهم بعض الدعاة المتحملين لمسؤولية تربية وإرشاد الشباب الملتزم، الذين بنوا نقدهم للحضارة الغربية على ما أسموه "المسلمة الدوابية " أو ما اختزلوه في الاستفهام المنفر: "الإنسان أصله قرد؟". كلمات تسعى إلى تيسير مخاض المراجعات العلنية للمعتقد الذي يزعم أن الخلق خلق دفعة واحدة ولم يتطور، والذي أضحى من المقدسات عند الأتباع، يكفرون كل من لا يؤيده!
لا ننكر أن دعاتنا الأفاضل هم النوابغ في مجال تخصصهم، لكن تهافتهم يظهر جليا عند خوضهم بغير علم في مجال تخصص غيرهم. مثال ذلك موقف الشيخ القرضاوي الذي يرى " أن الإنسان خلق خلقا مباشرا ولم يتطور عن أي نوع من الأنواع الأخرى وهذا يتفق مع النظرية القرآنية..."[1]
وذكر العلامة القرضاوي كلمة "النظرية القرآنية " توضح جانبا من ذلك التخبط، لأن النظرية اصطلاحا هو نظر نسبي، يحتمل فيها الصواب ويحتمل فيها الخطأ، بينما القرآن هو الحق المطلق الذي لا ريب فيه.
ربما لتدارك قلة الزاد في مجال العلوم المختصة، عمد علماؤنا إلى توظف الطرف الخاسر في المناظرة العلومية القائمة حول التطورية، كأمثال الداعية التركي هارون يحيى ( وهو بدوره متخصص في الآداب!)، وفرطوا في توظيف أهل الصنعة المعتبرين المتخصصين في العلوم الطبيعية، الذي يعملون في مراكز الأبحاث العالمية والجامعات المشهورة.
ويبدو أن الأمر التبس على هارون يحيى وأنصاره، فاتبعوا الخلقيين الأمريكان في حرفية تأويل سفر التكوين التوراتي التلمودي الذي تسربت خرافاته إلى بعض الصحابة والتابعين كخرافة عمرالخليقة: 6000 سنة، وخرافة عوج بن عوق، وخرافة رسو الأرض على قرن ثور... وغيرها من السخافات التي حدث بها بعض السلف المكثرين من الرواية عن أهل الكتاب ... ليت هارون يحيى وأنصاره اتبعوا الخلقيين الإنجيليين في المبدأ فقط، فيلتزموا بالحرفية ولكن في قراءة ظاهر القرآن المحفوظ من التحريف والتزوير. ليتهم اتبعوا المذهب الأندلسي الظاهري، فيقفوا عند ظاهر النص القرآني الذي يقول فيه الحق سبحانه: ) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح13 :14) وقوله )وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17). ظاهر النص يفيد تطور الخلق أطوارا مع إطلاق مفهوم الأطوار التي من بينها طور النبات من الأرض، والنسب الذي بيننا وبين النخلة والمثلية مع سائر الحيوان: قال تعالى : (وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا فى الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) الأنعام 38 ... ولن يستطيع أحد مؤاخذتهم على التأويل بظاهر الآيات. فينقلبوا خلقيين نصيين مسلمين مأجورين باتباع الفقيه المجتهد ابن حزم الأندلسي رحمه الله، عوض اتباع أهل الضلالة، فيوشكوا أن يكونوا من المبررين المعممين على المسلمين فتنة اللاييكية المبنية على تناقض العقل مع النقل. ومآخذي وانتقاداتي للإخوة الأتراك لا تتعدى موقفهم مع مسألة التطور لا غير. أما ما سوى ذلك من إصدارات دعوية عن طريق التذكير بآيات الله في خلقه وذكر الموت والآخرة والثواب والعقاب فكل ذلك مطلوب ومرغوب. ولقد أبلوا فيه البلاء الحسن، مذكرين إخوانهم العرب بتلك الفتوحات الباهرة التي تحققت لدين الله على أيديهم. ونرجو أن يتنبهوا للتلبيس الذي حصل لهم، وينبهوا أصحابهم الخلقيين الأمريكان لمعاني الحرفية المحمودة: حرفية الوقوف مع النص المحفوظ من التزوير، لا حرفية الوقوف مع الفكر التلمودي الأسطوري الذي حذرنا الله ورسوله منه تحذيرا شديدا.
هذا الموقف الفاسد مع النظرية التطورية لم يمنع العلماء الطبيعيين من السير في الأرض للنظر كيف بدأ الخلق. سخرهم البارئ الخالق المصور لتنفيذ أمره المطاع " قل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20) . فتعددت الاختبارات العلمية للمسألة، بواسطة تخصصات مختلفة كعلم التصنيف والأنساب وعلم الإحاثيات وعلم التشريح وعلم الإحصاء والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفيزيولوجيا، ثم جاء الاقتحام الباهر بواسطة علم الوراثة والصبغيات .
لقد كانت نسبية النظرية واعترافها بالقصور في الإدراك هو السبب المباشر في دفع عجلة التنقيب عن أسرار الحياة، خاصة لما ساهمت معظم العلوم في المجهود، مسلطة أضواءها عليه من زوايا مختلفة. ولم يكن لنا كمسلمين معاصرين أي مساهمة في البحث مثلما كان لأسلافنا العباقرة كابن خلدون الذي يعتبر أول من عبر عن نظرية التطور بدقة مبنية على الملاحظة.
لكن عندما خاض في الموضوع بعض خبراء الكلام ، وأهل الأغراض الفلسفية والأهواء المذهبية، كانت هناك انتهاكات وتجاوزات خطيرة ارتكبت في حق المنهج العلمي العقلي. هؤلاء بحكم تخصصهم لهم قصور كسبي في الإلمام بمنهجية أهل النظر المضبوط كالرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء، لكن لهم استعداد آخر ليس لغيرهم من أهل النظر، هو كذلك من الوهب والإمداد الإلهي: الحذق في تأجيج المشاعر في الاستغلال المذهبي والأيديولوجي والفلسفي للنظريات العلمية. غالبا ما يستعملون طرق التدليل العاطفي الذي يجتهد من أجل إيجاد الحجج لتعزيز خيار مسبق من الخيارات المذهبية، أو مرجعية فكرية من المرجعيات.
التوظيف المذهبي للنظريات العلمية:
من هؤلاء المذهبيين من يحاول استغلال النظرية التطورية بطرق شتى، رغم كونها مجرد افتراض لوصف تدريج الخلق وارتباط بعضه ببعض، لا يدعي امتلاك الحقيقة القطعية. يرغمون النظرية في مرحلة أولى أن تكون حقا مطلقا أو باطلا مطلقا، ثم في مرحلة ثانية يعتمدون على هذه القطعية المزورة للانتصار لمذهب من المذاهب أو أيديولوجيا من الأيديولوجيات أو اعتقاد من المعتقدات. فهي إذن حالات مختلفة نجمل بعضها كالتالي:
حالة من يؤمن بقطعية النظرية، ويرى في هذه القطعية دليلا على صحة مذهب من المذاهب المنكرة للخالق. فهذا تعلق قلبه بالعدم وجعل أساس جحوده مبنيا على نظر عقلي خاطئ، لأن أصحاب النظرية العلمية لا يدعون أي قطعية فيها. هذه الحالة لا يمكن وصفها إلا بطمس العقل وطمس القلب.
حالة من يؤمن بالمطلق الخالق، ويؤمن بقطعية النظرية، ويجعلها دليلا على إيمانه بالخالق. فهذا الذي يربط المطلق الحقيقي بمطلق وهمي، هو في خطر إذا انقشع وهمه، وأدرك أنه يضع للمطلق الحقيقي ( الله) أساسا نسبيا قابلا للمراجعة (النظرية )...
حالة من يؤمن بالمطلق الخالق، وينطلق من فهمه للنقل لدحض النظرية العلمية. وهذا حال من يجادل بغير روية، في موضوع منعدم.
ولأن النظرية العلمية أصلا واصطلاحا لا تدعي امتلاك الحقيقة، فهي بذلك خريجة مدرسة التواضع التي يلخصها لنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قوله " العجز عن إدراك الإدراك إدراك ". هذا التواضع هو مصدر قوتها، فهي في حركية مستمرة لتصويب بنائها وسعي حثيث للتنقيب عن أسمى تعبير لمقاربة الحقيقة من خلالها، والمقاربة لانهائية approche asymptotique . وبما أن في كل حركة بركة، وحيث أن الحرف الساكن لا ظهور له إلا بالحركة رفعا أو نصبا أو خفضا أو جزما، ما تدركه النظرية العلمية في سعيها اللامحدود نحو الكمال من معارف لا ينضب معينه، لأنها من قبيل كلمات الله التي لو كان البحر مدادا لها لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا : )قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)
وكلمات ربنا التي تكتبها يد القدرة ، من نفس واحدة، عبر المورثات أثبت العلم حقا أنها لا تنضب، فهي إن كانت سببا في تركيب أنواع لا تحصى من الفصائل الأحيائية في الماضي، ستبقى كذلك إلى اليوم الآخر... فانظروا ما أتاح تواضع النظرية التطورية العلمية من إمكانيات تركيبية في عالم التكنولوجيا الوراثية الذي يشهد حاليا تطورا رهيبا وثورة في مجال تركيب فصائل جديدة من النبات والحيوان، تحدد خواصها مسبقا عبر تقنيات التطورية الدقيقة. ( microevolution )
الخلط الموضوعي والخطأ المنهجي :
والاختلاف الذي ينبغي أن يكون واضحا بيننا وبين غير المؤمنين بالله، هو في مسألة من رسم هذا الخط الخلقي الذي انتهى بالإنسان الواعي، وما قصده، وما غايته؟ لا في مسألة كيف خلق الخلق. ولكي نخطو خطوة نحو الحوار الراشد ينبغي أن نفرق بين المسألتين بالقول الفصل الذي يصعب إنكاره.
موضوع "من خلق الخلق؟" وهي مسألة اعتقاد وأمر غيبي، والموقف الصواب من هذا الأمر يؤكده الخالق الخبير بخلقه : )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... الآية) (البقرة:256) ؛ فلا مجال هنا للخلط الموضوعي إلا لمن يستهويوه الجدل العقيم لا الحوار البناء.
موضوع " كيف خلق الخلق؟" وكيفية التعامل مع نظرية تطور الخلق. إذ أن هناك من يؤمن بالمطلق الخالق، وينطلق من فهمه الشخصي للنقل لدحض النظرية العلمية. وهذا حال من يجادل بغير روية، في موضوع منعدم. فإن أتى بالنصوص واستدل بها على خطأ النظرية أو صوابها ففعله عبث، لأن النظرية اعترفت سلفا باحتمال خطئها أو صوابها. والخطر الذي يوشك أن يصدر ممن هذا حاله، هو غلق باب الاجتهاد في السير في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق، لأنه حسم في الأمر، ولم تبق له تلك النسبية التي تدفع عجلة البحث العلمي. كما أنه ادعى لنفسه الكمال في فهم النصوص، فأغلق كذلك باب الاجتهاد في فهم النص المنقول أو تخريجه تخريجا واعيا بخطر الفقه الخرافي الإسرائيلي. معالجة النظرية العلمية بهذه الذهنية تعسف واضح وخطأ منهجي غير مقبول عقلا ونقلا. حصيلتها الجمود في النظر العقلي العاجز عن الإتيان بالبديل النظري للتطور، يقبله أهل الصنعة، وكذلك الجمود في الفهم النقلي، وشيء لا بأس به من النفسية المستعلية التي يصعب عليها التحلي بالروح العلمية، المبنية على الشك المنهجي الداعي للتجربة. فلولا الشك ما أجريت التجارب، ولولا التجارب ما حصلنا على قوانين كونية تتكرر دائما لمن يعيدها سواء كان في الصين أو في المغرب...
ضرورة التجديد لموقفنا تجاه نظرية تطور الخلق :
سعيا في بناء موقف متسق تجاه التطورية، ربما يكون من المفيد الارتكاز على الأسس التالية:
التطورية هي نظرية تحاول الإجابة عن سؤال " كيف خلقت أنواع المخلوقات، وكيف تم تدريجها من البسيط ( العناصر الطينية ) إلى المعقد (الإنسان الواعي). بواسطتها يمكن تفسير ما نلاحظه في عالم الخلق من ظواهر مختلفة نذكر منها:
ظاهرة وحدة الخلق، يدرسها علم الكوسمولوجيا، وعلم التشريح المقارن، وعلم نشوء الأعضاء...
ظاهرة تسلسل الخلق، يدرسه علم الوراثة وعلم الإحاثيات...
ظاهرة ارتباط الأنواع، وتدرجها، وانفصالها، وهو مجال علوم التصنيف، وعلوم بزوغ الأنواع وانفصالها ( systématique, spéciation, phylogénie ) ...
التطورية هي بناء علمي يفسر ما نلاحظه من خصائص في عالم الخلق، يحتمل فيها الخطأ ويحتمل فيه الصواب، لكنها لحد الآن هو ما اتفق عليه أهل الاختصاص من بناء يمتاز بالاتساق ( cohérence )، يمكن بواسطته تفسير بعض الظواهر الإحيائية، وكذلك استنباط المجهول من الحقائق من معلومها في عالم الخلق. مثال ذلك ما نراه رأي العين في تجارب تحسين أو تركيب فصائل جديدة في عالم النبات والحيوان والفيروسات، وهو ما يطلق عليه " التطورية المجهرية" (microévolution) . فإذا تكررت عبر ملايين السنين فإنها تفضي تدريجيا إلى "التطورية الكلية" ((macroévolution التي يقرأها المتخصصون في كتاب طبقات الأرض وأحقابها الجيولوجية.
ولكي نجدد في فقه بدء الخلق ودرء تعارض النقل والعقل فيه، ربما يكون من المفيد تخليص كتب تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف مما علق بهما من أساطير الخرافة الإسرائيلية .
التعامل الشرعي مع مقالة الخلقيين المستوحاة من الإسرائيليات ومقالة المجسدة المشبهة:
لقد أمرنا الشارع ألا نصدق وألا نكذب الأساطير الإسرائيلية. وهذا يجعلنا في مأمن من اعتماد التصور الخرافي لخلق آدم، الذي يجسد خالقا متحيزا، ينحت صنما من الطين ذا ثلاثة أبعاد، ويتركه حتى يجف، ويطوف حوله إبليس ويتعجب منه، ويدخل من فمه ويخرج من دبره... مثل ما جاء عن طريق السدي في كتب التفسير.
ففي تفسير قوله تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ، يقول : " فخلقه بشرًا فكان جسدًا من طين أربعين سنة، من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعًا إبليس، فكان يمر به فيضربه، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار، يكون له صلصلة فلذلك حين يقول: ( مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) ويقول لأمر ما خلقت، ودخل من فيه وخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكته!.
والسُّدي كما يسوقه أهل الحديث، أكثر التابعين بإطلاق حكاية الإسرائيليات، بل فاق الإخباريين عن بني إسرائيل ككعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهم.
وإنه لمن العجب أن يروج المفسرون لتلك الأساطير رغم اقتناعهم بضعفها وعدم حجيتها. قال ابن كثير: «ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان، لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل. وما أقل الصدق فيه! ثم ما أقل فائدة كثير منه، لو كان صحيحاً! قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار أبو عاصم أخبرنا سفيان عن سليمان ابن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبد الله –هو ابن مسعود– قال: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. فإنهم لن يهدوكم وقد ضَلّوا. إما أن تُكَذِّبوا بحق، أو تُصَدِّقوا بباطل. فإنه ليس أحدٌ من أهل الكتاب، إلا وفي قلبه تاليةٌ تدعوه إلى دينه كتالية المال".
والغرابة تزداد لما يكتشف الدارس أنه قد تمّ تعليق مصداقية ما يقوله القرآن بما زعمته الخرافة التلمودية، مع أن القرآن أثبت أنّه جاء ليقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) "سورة النمل 76" ، فانقلب الأمر وصار أهلُ الكتاب هم الذين يقصون على أهل القرآن، وصار الفكر التلمودي هو المهيمن على تفسير أهم موضوع يتعرض له القرآن: موضوع الخلق الذي تكررت آياته وتحدياته للدلالة على عظمة الخالق، وللترغيب بالإيمان به .
وشرح ابن خلدون في مقدمته أسباب نقل المفسرين هذه الإسرائيليات فقال " والسبب هو أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجـود فإنما يسألون أهل الكتاب قبلهم... "
ويرى أهل الحديث أن " نقل الصحابة عن الإسرائيليات قليل جداً مقارنة بالتابعين وأتباع التابعين. ولم يثبت عن أُبَيّ بن كعب أنه روى شيئاً من الإسرائيليات. وجاء عن عبد الله بن سلاّم شيء قليلٌ جداً، وقد شهد له اليهود قبل معرفتهم بإسلامه بأنه أعلمهم جميعاً. فهو أعرف الناس بما لم يُصبه التحريف من الإسرائيليات، فلا خوف من نقله. وأكثر النقل عن أهل الكتاب هو عن كعب الأحبار ووهب بن منبه. وكان عمر شديداً على كعب الأحبار لئلا يحدث الناس بما يفتنهم. وكذلك كان ابن مسعود يحذو حذو عمر في أعماله وأقواله، فلم يثبت عنه رواية شيء من الإسرائيليات. والمروي عنه في ذلك إنما هو من طريق السدي الكذاب الكبير."
كذلك من الغريب أن تجد الأسطورة الخلقية الإسرائيلية لها أنصارا شرسين من بين غلاة المجسمة المشبهة المتحمسين للاعتقاد الذي يرى :
أن لله جوارح حقيقية وأعضاء، وأن له مكان في جهة فوق، وأنه سبحانه يمس المخلوق، من عرش وشياطين ونجاسات!!
وأن لله مساحة وحجما وحدودا من الجهات الاربع، وأن كلامه حروفا وأصواتا ولغات، وأنه سبحانه محيط حسا بالمخلوق!!
حجتهم في ذلك اعتقادهم بحرمة التأويل! ولقد أبطلوا حجتهم بأنفسهم عندما حرموا تأويل الآيات المتشابهة ، بينما اقترفوا زلة تأويل الآيات المحكمة التي تنفي التشبيه والتجسيم. من هذه الآيات المحكمة قوله تعالى: (... لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 103) .وقوله عز وجل: ( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). (الشورى: 11)
دعائم لتأسيس فهم متسق وفقه جديد لمسألة بداية الخلق :
في تراثنا الإسلامي الصحيح ما يجعلنا في غنى عن التعلق بالأسطورة الإسرائيلية المجسدة للنظر كيف بدأ الخلق:
أولا: ما جاء في محكم التنزيل :
مسألة "النظر كيف بدأ الخلق"، هي مسألة علمية في متناول النظر العقلي لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) (الواقعة:62). وهو العلم الذي يفيده تدبر كتاب الله المسطور، والحديث الصحيح، وكذلك العلوم الذي ندرسها في كتاب الله المنظور( علوم الطبيعة). وقد أمرنا ربنا بالبحث فيها ، فصارت المسألة فرض كفاية، يؤديه عنا المؤهلون علميا لتطبيق أمر الله القائل: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت:20)
ونظرية التطور والأصل الواحد لجميع الأحياء تساعدنا على تجديد ملح في موضوع "درء تعارض العقل والنقل"، وهو في غاية الأهمية في زمان الهيمنة اللاييكية، المبنية على تعارض العقل مع النقل الخرافي للإسرائيليات. ولربما توسلنا النظرية لتأسيس فهم تجديدي معاصر للآيات القرآنية التي تحدثنا عن موضوع الخلق، عوض الجمود على التعلق بالتفاسير القديمة التي تعج بشكل غريب بالأساطير الإسرائيلية. من هذه الآيات نذكر ما حضر، وغيره كثير، لا تخلو صفحة من الكتاب المبين من لفت انتباهنا لمسألة الخلق:
( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح:14)
( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17)
( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) (السجدة:7)
( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (السجدة:8)
( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (السجدة:9)
( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (الفرقان:54)
( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (لقمان:28)
وأطوار الخلق يمكن إطلاقها على عمومها: أطوار خلق الإنسان في رحم الأم، وكذلك أطوار خلقه في رحم الطبيعة، بحرها وبرها، بداية من السلالة الطينية ( الحمض النووي: DNA )، وانتهاءا بآدم المسوى السميع البصير، ومرورا بجميع الفروع التي انبثقت عنها الأنواع في شجرة الأحياء. ولقد وضح لنا خالقنا تلك الأطوار في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين) (المؤمنون: 12 - 14) .
وكل طور نجد له ممثلا في رحم الأم، ومدة تدرج الأطوار فيه تسعة أشهر. ونجد له كذلك ممثلا في رحم الطبيعة، ومدة تدرج الأطوار فيها ما يفوق ملياري سنة. ولا يمكن تفسير بعض التشابهات بين ممثلي الأطوار في الرحمين، إلا باعتماد الأداة التفسيرية التطورية ، منها ذكريات الخياشم الجنينية التي تذكر بالسلف المشترك مع الحيوانات المائية، وذكريات المصران الزائد التي تذكر بالسلف المشترك مع المجترات، وغيرها كثير عند المتخصصين في علوم الأحياء، الذين وهبهم الخبير العليم فهما في كتابه المنظور.
اعتماد النظرية التطورية يؤسس كذلك لفهم جديد في كتاب الله المسطور، خاصة لبعض ما استشكل على المفسرين القدامى . مثال ذلك موضوع استفهام الملائكة حول خلافة آدم في الأرض. قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة؛
أورد القرطبي في تفسيره حكاية عن أهل الكتاب: " قيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء، وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال. " جاء هذا التفسير للخروج من استفهام الملائكة: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدّم من سفاكي الدماء؟ فقال المفسرون الأوائل هؤلاء هم الجن، ونحن نعلم أن خلقة الجن النارية لا يمكن أن نتصور معها دماء تجري في عروقهم كما للخلقة البشرية. والقياس بين الجن والإنس لا يستقيم لأن الجن جن والبشر بشر. فلزم القول أن الملائكة ربما رأوا سفك الدماء في أقوام بشرية سبقت آدم...
اعتماد النظرية التطورية ييسر لنا رفع هذا الإشكال: الحمض النووي الآدمي الذي انبثقت عنه الخلائق كلها ( أو الخميرة الآدمية أو فضلة طينة أدم كما عبر عنها حديث النخلة الذي سنورده)، هذا الحمض النووي انبثق عنه بشر بدائي يسفك الدماء كما شهدت به الملائكة. فلما انتهى به المطاف التطوري )بالتعديلات الجينية عبر آليات الطفرات ( mutations) والتفاصل ( hybridation () إلى آدم الذي اصطفاه الخالق، جعله سميعا بصيرا واعيا بخالقه . فهو وذريته هم المستخلفون، أي أن سلالته هي التي ستبقى دون غيرها من سلالات البشر البدائي مثل نوع النيوندرطال وغيره من الأمم البائدة. وسيتكرر نفس الاستخلاف لذرية نوح الذي يعد الأب الثاني للبشرية، ليس لأن الطوفان قد أهلك جميع البشر، بل بسسب انقراض جميع فروع نسل آدم ما خلا النسل الذي بثه الله من ذرية نوح : سام ( ابو اليهود والعرب)، وحام ( أبو الأقباط والأحباش والكنعانيين والبربر)، ويافوت (أبو الروم والترك). قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } "الصافات : 77 ) قال: الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام، وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ } قال: سام وحام ويافث. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم " ورواه الترمذي.
ولربما لا تزال إلى يومنا هذا بعض الشعوب لم يصلها بعد تلقيح جينوم أبناء نوح، في بعض القارات النائية كاستراليا وغينيا الجديدة وغابات الأمازون... وهي مسألة وقت فقط ربما حسب مدته بعض علماء الأنساب الطبيعيين، فقدره ببضعة قرون.
ثانيا : ما جاء في صحيح الحديث الشريف:
يحثنا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم على التفكر العميق في خلق الله، وينهانا عن التفكر في الذات الإلهية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا" رواه البيهقي وغيره. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد فتن الناس بتلفيقات المجسمة المشبهة الذين روجوا للخرافة الخلقية الإسرائيلية.
واعتماد نظرية التطور كأداة للتفكر في الخلق، ربما ييسر لنا حل بعض المشكلات التي أثارها فقهاؤنا الأوائل رحمة الله عليهم، لما اطلعوا على أحاديث تتكلم عن النشأة الآدمية.
مثال ذلك ما أثاره شارح صحيح البخاري حول الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا: "كان طول آدم ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا".
الشارح رحمة الله عليه لا يتردد في طرح مشكل الجثة الضخمة الذي استعصى عليه حله، يقول: ... " ويشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار ثمود فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق، ولا شك أن عهدهم قديم وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة، ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال".
لم يظهر له ما يزيل هذا الإشكال. تواضع وموقف علمي يترك الباب مفتوحا للنظر العقلي فيه. ولنا الحق كذلك أن ننظر، وأن نعيد صياغة المشكل إن اقتضى الحال...
يعثر علماء الإحاثيات على دينصورات عمرها تفوق 100 مليون سنة. لكن لم يجدوا أي أثر لهذا الإنسان الذي يبلغ طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا، أي حوالي ثلاثين مترا طولا وثلاثة أمتار عرضا. لا شك أن هذا المخلوق الذي يضاهي هيكله العظمي هيكل أضخم الدينصورات، وعاش في حقبة أقرب بكثير من حقبة الدينصورات : أقل من مليون سنة، هو أولى بالعثور من الدينصورات إن كان موجودا على وجه الأرض.
زاد الإشكال تعقيدا!.. ولنا أن نحمله على احتمالات مختلفة: إما أن الحديث يحدثنا عن نشأة آدمية في عالم الغيب والمثال، وإما أن الحديث يريد أن يخبرنا عن غصن دينصوري تفرع من جينوم آدم. وفي هذه الحال، اعتماد نظرية التطور تيسر لنا رفع الإشكال لأن شجرة الأحياء تبين أن للثديات، التي يصنف الإنسان ضمنها، علاقة وارتباط بالنوع الدينصوري، ويجتمعان معا في سلف مشترك تفرعت منه جميع الفقريات (Embranchement des Vertébrés) ... والسلف المشترك حدده علماء الطبيعة.
كما أن هناك من النقل ما يشير إلى نسب لنا مع عالم النبات، كما جاء في الحديث: " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من النخلة ولدت تحتها مريم بنت عمران وأطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر" ( حديث أخرجه البيهقي بسند جيد) . هنا كذلك اعتماد النظرية، يفسر لنا هذا النسب مع النخلة التي انبثقت من الجينوم الأدمي ( أو خميرة آدم كما عبر عنها بعض السلف)، ويحدد لنا بالضبط ذلك السلف الذي يجمعنا مع عالم النبات. فيتيسر لنا كذلك فهم جديد في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17)
ثالثا ما استنبطه أصحاب النظر العقلي المسلمون:
لقد ارتقى التأمل في الخلق عند حذاق النظار المسلمين من المرحلة الوصفية لعجائبه وغرائبه المبعثرة، إلى مرحلة ترتيب الملاحظات وتصنيفها، إلى مرحلة النظر في كيفية نشوء الخلائق وتطورها. فتم لهم استنباط نظرية النشوء التي يتيحها المنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة. ولقد وردت النظرية مجملة في كتابات بعضهم خاصة المفكر العبقري ابن خلدون.
عالج ابن خلدون مسألة الخلق في نظرة شمولية يمكن القول إنها أول تعبير لنظرية التطور. حيث أن داروين لم يزد عليها سوى أن اختبرها عبر مختبر الطبيعة، ثم ألبسها مسوحات مذهبية لمناصرة المعتقدات الأيديولوجية السائدة في زمانه.
يقول ابن خلدون رحمه الله عن الأصل المادي للإنسان في مقدمته [2]:
"اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته"...
يقول: " ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم، متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب، لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه. وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا."
هذا ما لاحظه ورتبه ابن خلدون في عالم الشهادة: نظرة علمية ثاقبة لم يزد عليها داروين الطبيعي سوى أنه سافر عبر العالم للتأكد من وجود الحلقات الرابطة بين الأنواع، مستعملا المتاح في زمانه من علوم التصنيف والباليانطولوجيا وغيرها من العلوم... واقترف زلة تفسيرية في افتراض عنصر الصراع من أجل البقاء، بينما لزم ابن خلدون تفسيره للتطور بنظرية "الاستعداد الغريب" وكلتا النظرتين تم تجاوزهما اليوم اعتبارا لما أتاحته علوم العصر، خاصة علم الوراثة، من تفسيرات جديدة.
داروين ومن تبعه، اقتصر على البعد الحيواني للإنسان ولم يتجاوزه خشية رقابة المنهجية العلمية الصارمة التي يدعون أنه ليس من اختصاصها التعرض للحقائق الغيبية.
لكن ابن خلدون ليست له تلك النظرة التجزيئية للإنسان، فهو يرى أن الاقتصار على البحث في الإنسان الحيواني فقط، يبتره من المقومات الجوهرية التي بها بتميز عن الخلقة الدوابية. لذا كان لزاما عليه أن يكمل لنا النظرة الشمولية لهذا المخلوق الذي سواه الله ليدرك خالقه ويستحق السمو والتطور إلى أعلى تقويم إن اعترف بخالقه، أو يرد أسفل سافلين في دركات الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون، إن اختار الجحود والعياذ بالله.
دار الزمن دورته، وبعد أربعة قرون، فرضت النظرية التطورية الإسلامية نفسها على الغرب، ويبدو أنهم أخفوا مصدرها وأوهموا الناس أنهم اكتشفوا نظرية لتفسير وجود الإنسان وتطوره على الأرض، صوروها من خلال شجرة الأحياء التي اقتضت فرض وجود حلقات رابطة بين الأنواع والفصائل، وحددوا بدقة خصائصها، ثم ساروا في الأرض للبحث عنها، والتعرف على نسبة الصواب من الخطأ في النظرية.
والغريب هو حقا أن ينتكس عقل بعض علمائنا، بإصرارهم على طرد النظرية التطورية من حظيرة الإسلام في زمن سطوع شمس العلوم واتساع مدارك العقول...
رابعا: مقولة وحدة الخلق الصوفية ومطابقتها لنظرية التطور:
هذا الرافد من نظرات المكاشفين بالعلم الذوقي الوجداني، يعرض وجهة نظر المحققين من علماء المتصوفة. ففي كلامهم عن وحدة الخلق التي تدل على وحدة الخالق، تجدهم يفسرون ببساطة غريبة، اندراج جميع المخلوقات الحية في الإنسان، أو انبثاقها منه، والأمر واحد، ( كما انبثق الكون كله من النور المحمدي). والتحقق في ذلك المنزل، حسب نظرهم، شرط من شروط القطبية.
يقول أحدهم رحمة الله عليهم[3] : "فإن سمعت الصوفي يقول أنا نسخة من العالم، فليس معناه أن كل ما في العالم فيه في زمان واحد، بل هو مستعد لقبول ما في العالم بخلاف غيره من الموجودات، ولكن فيه أكثر العالم. فتم في العالم أشياء هي في الإنسان بما هو إنسان، كالنبات والحيوان والجمادات، ومنها ما هي فيه من حيث هو عبد مختص بالله تعالى كالملائكة وما أشبه ذلك، وهكذا في مضاهاة الكون في الإنسان. وفائدة هذا المنزل، إذا تحقق به المتحقق يكون قطب وقته، ولو كان في غير هذا الزمان لكان مشارا إليه."
ومن الحكمة، بعدما رمونا على طريق كشفهم، الرجوع إلى قاموس العلوم العصرية، وإلى حذاق العلم الطبيعي، نسائلهم عن نوع ذلك "الاستعداد"، أو الاستعداد الغريب بتعبير ابن خلدون أيضا، الذي للإنسان لقبول ما في العالم من الموجودات؟ ما هو ذلك الجوهر الذي جعل الإنسان مستعدا لكي تنبثق منه الخلائق بأنواعها؟ ما علاقة هذا الشيء الجوهرى بالمورثات التي تضمها خلايا جسمنا؟ ما معنى أن جينوم الإنسان يشبه جينوم الفأرة بنسبة 90 في المائة، ويشبه جينوم النسناس بنسبة 99 في المائة؟ وكيف تمكن العلم من التعرف على الجينات المشتركة وماذا يحدث في حال تبديلها بين نوع ونوع آخر، بل بين بكتيريا ونطفة الإنسان؟
رجوعا إلى موضوع اندراج جميع الخلق في الإنسان من وجهة نظر المكاشف، يزيدنا توضيحا رحمه الله[4] في كلامه حول قوله تعالى )وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً) (نوح:17)، قال: ... والنبات الذي له حس على قسمين: منه ما له الحركة المستقيمة كالإنسان، ومنه من له الحركة الأفقية كالحيوان، وبينهما وسائط، فيكون أول الإنسان آخر الحيوان، فلا يقوى قوة الإنسان، ولا يبقى عليه حكم الحيوان كالقرد والنسناس. كما بين الحيوان والنبات وسط مثل النخلة، كما بين المعدن والنبات وسط مثل الكمأة."
"وبينهما وسائط" أليست هذه إشارة واضحة بقاموس عصره إلى الحلقات الرابطة بين أنواع الخلق بداية بالتراب ونهاية بالإنسان الذي تندرج فيه جميع المخلوقات ليكون ممثلا للعالم الكبير؟
لكن ليست هذه النشأة هي غاية تدريج خلق الله، هناك طور آخر يعطي الإنسان الاستعداد للتعرف على خالقه، وهي غاية الخلق الظاهرة في قوله تعالى: " ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" أي ليعرفون كما فسره ابن عباس .
عن كمال هذه النشأة يحدثنا المكاشف رحمه الله [5] قال ..." فلما أكمل النشأة الجسمية النباتية الحيوانية وظهر فيها جميع قوى الحيوان، أعطاه الفكر من قوة النفس العملية، وأعطاه ذلك من قوة النفس العلمية من الاسم الإلهي المدبر..."
إلى أن قال عن الإنسان الحيواني: " ... حكمه حكم سائر الحيوان إلا أنه يتميز عن غيره من الحيوان بالفصل المقوم له، كما يتميز الحيوان بعضه عن بعض بالفصول المقومة لكل واحد من الحيوان، فإن الفرس ما هو الحمار من حيث فصله المقوم له ولا البغل ولا الطائر ولا السبع ولا الدودة، فالإنسان الحيواني من جملة الحشرات فإذا كمل فهو الخليفة فاجتمعنا لمعان وافترقنا لمعان".
وننتقل إلى ولي آخر[6] من أولياء الله الذين تقربوا للحق سبحانه حتى صار الحق بصرهم الذي يبصرون به، للتعرف على سر التدريج في خلق الإنسان أطوارا. قال رحمه الله: "والله تعالى قادر على خلق السماوات والأرضين في لحظة، فلم جعل خلقهن في ستة أيام؟ وقادر على خلق آدم من غير تراب، فلم خلقه من تراب؟ ولكنه تعالى يخلق بعض الأشياء من بعض، ويرتب خلقها في أيام ويجريه شيئا شيئا، لأنه يحصل من ذلك توحيد عظيم للملأ الأعلى، لأن في تنقل ذلك الحادث من طور إلى طور ومن حالة إلى حالة، وظهور أمره شيئا فشيئا، ما لا يكيف من جمع همم الملأ الأعلى إلى الالتفاتات إليه بالتعجب في أمر ذلك الحادث، والتفكر في شأنه، وكيف يخلقه، وماذا يكون منه وإلى أي شيء يصير. فهم يرتقبون الحالة التي يخرج عليها، فإذا حصلت، حصل لهم من التوحيد ما لا يكيف ولا يحصى، وفي زمن الارتقاب يحصل لهم من العلم بالله تعالى والإطلاع على باهر قدرته وسريانها في المقدورات شيء عظيم، فلا يفوتنهم شيء من أسرارها في ذلك المخلوق، فيحصل لهم التفهيم التام. فالتدريج لهذه الحكمة ولحكمة أخرى، وهي أنه بهذا التدريج، وانتظار خروج الحادث والتشوق إليه توجد مخلوقات أخر، مثل هذا الحادث أو أعظم، فلله تعالى في كل شيء أسرار وحكم."
قوله: "في انتظار خروج الإنسان توجد مخلوقات أخرى"... ربما هذه إشارة لسلسلة شجرة الأحياء التي يعرضها لنا السجل الإحاثي. قوله: "مثل هذا الحادث أو أعظم"، أقول: أعظم في الخلقة، لا في المرتبة لأن مرتبة الإنسان ليست لغيره من المخلوقات، إذ هو غاية الخلق، وهو الخليفة في الأرض.
ولا يحق لنا أن نحمل أحبابنا القدامى ما لا يطيقون، فكلامهم تعبير بالمفاهيم والمصطلحات المعروفة في عصرهم، ولنا أن نفسرها بما استجد في عصرنا من كلمات القاموس العلمي. فها هو رحمه الله يريد الكلام عن علم التصنيف لأنواع الخلق، يذكر لنا أشياء يفصلها العلم الحديث كقضية افتراق الأنواع من فصل واحد، وقضية عقم البغلة، وكيف يتم التزاوج بين السبع والنمرة وبين النمر واللبؤة، وما هي خواص نسلهما... إلى غير ذلك من المسائل التي يناقشها العلم الطبيعي الحديث.
والمثير للانتباه في هذه الرواية، قوله بقاء تربة آدم في الماء عشرين يوما، ( واليوم، كما يفسرون، هو مقياس نسبي للزمن يختلف مقداره باختلاف الفلك الذي يتم اعتماده لحسابه)، هل يعني ذلك أنها إشارة إلى النشأة البحرية التي يقصها علينا سجل الإحاثيات؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي قد يفهم من طرحها أننا نريد تقريب هذه الرواية من النظرية الحديثة للتطور، رغم أنه من المؤكد مثلا أن الحقبة التي ظهرت فيها الأشجار في الحقبة الكامبيرية، كان جو الأرض غير ملائم نهائيا لما يحتاجه الإنسان، مما يعني أن الخلقة الأولى ( عالم الذر؟) التي سبقت نشوء الشجر كانت خلقة مختلفة عن الخلقة الحالية... وقس على ذلك من الإشكاليات التي نعثر عليها في أخبار خلق آدم عليه السلام عند أهل المكاشفة، والتي يعسر فهمها لعدة أسباب، من ضمنها مسألة المفاهيم والمصطلحات المتاحة على عهدهم، وعامل الزمان الذي طواه الله للمكاشف، حتى ظهرت له أحقاب الخلق من "غير زمان" كما يقول ابن خلدون، فظهر له في لمح البصر ما تطلب ملايير السنين بالقياس الجيوليجي.
إحياء العقل المسلم عبر إحياء عبادة التفكر في خلق الله:
رأينا أنه عندما يخوض في موضوع الخلق أهل الأهواء الفلسفية والمذهبية، ترتكب أحيانا انتهاكات وتجاوزات خطيرة في حق المنهج العلمي، تتوثب إلى منع العقل من ممارسة عمله الأرضي المتواضع، وبالتالي إلى غلق باب اجتهاد العقل. وتفضي تارة أخرى إلى غلق باب الاجتهاد في فهم النص النقلي.
لامناص إذن من مراعاة شروط التفكر المسدد الذي يرقي صاحبه درجات في طلب الحق، منها:
أولا الفهم العميق لكلمات الله الكونية وهي السنن الجاري حكمها على الخلق، وهي القوانين العلمية التي أوجدها الله وكشف عنها للإنسان شيئا فشيئا، لأنه مفطور على اكتشافها. إنها تلك السنن التي تتحكم بأمر الله في تسخير الكون للإنسان كقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها ؛
ثانيا الفهم الصحيح لكلمات الله الشرعية التي تبين لنا المقاصد والغايات، وتسن لنا قوانين لتدبير أمر الإنسان في بعده الفردي والجماعي؛
ثالثا الإلمام بعناصر الربط بينهما لتصحيح مسيرة الإنسان ولرسم الاختيارات المستقبلية التي تصلح للمكان والزمان الذي نعيش فيه، في إطار ما يمكن تسميته "هندسة التغيير المجتمعي نحو المجتمع الراشد الخليفة في الكون".
فالتفكر المسدد هو إذن سبح وجداني يحلق بجناحي الطبيعة والشريعة، للترقي في درجات الفكر والذكر، وللتدرج في علم الكيفيات، وفي فقه المقاصد والغايات الخلقية:
علم كيفيات بدء خلق الكون ونهايته، غايته التوحيد الراسخ عندما يدلنا على قوانين الوحدة الكبرى التي تجمع الكون المادي وترده إلى أصل واحد، تفصله لنا النظريات العلمية الحديثة ( نظرية الانفجار العظيم). ويصوره لنا الوحي نفخة في الصور، ويربط ذلك كله بقوله تعالى )أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء:30) وبقوله: )يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104) . وقوله: )وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (الزمر:68) وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11).
وعلم كيفيات بدء الحياة في المادة الترابية غايته التوحيد العميق عندما نكتشف تلك القوانين الموحدة التي تجمع عالم الأحياء وتربطها بأصل واحد كذلك: معين يحيي التربة، ويسري ماءا مهينا ونطفة ( ADN) من خلق إلى خلق آخر، وتبارك الله أحسن الخالقين. ويربط ذلك بما كشف الله لنا في علوم الخلية والأجنة وتطورها أطوارا، وعلوم سريان المورثات والجينات من نشأة إلى نشأة أخرى نسبا وصهرا، )وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (الفرقان:54). ويربط ذلك بآيات الخلق التي يأمرنا القرآن بالسير في الأرض لنتعرف عليها، ليكتمل توحيدنا للخالق، ونستيقن من خبر النشأة الآخرة. )مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (لقمان:28)
علم غايته كذلك التفكر في النهاية الحتمية لكل مخلوق، يحدد لنا أجل العناصر الطبيعية والخلائق كلها وكيفية تحللها ورجوعها إلى العدم الذي هو أصلها.
أما العلم الذي يخبرنا عن النشأة الأخرى الخالدة، وعن المقاصد والغايات الخلقية، فلا سبيل لسبر حقائقه إلا عن طريق الوحي.
ومن شروط التفكر المسدد كذلك الحذر من الكمائن والتلبيسات التي يزرعها الشيطان والهوى على طريق أهل الفكر ( العقلانيون) وكذلك على طريق أهل الذكر:
معارج الفكر والحكمة وطلب الحقيقة عن طريق النظر العقلي، لا يستقيم له طريق بدون سابق تبحر في العلوم الكونية، وفي مناهجها وقوانينها وأدبياتها ومجالات صلاحها، ونسبة احتمالات الصواب والخطأ فيها، وما هي البحوث التمهيدية والمكملة والمستنبطة من نتائجها المرحلية والنهائية... فمن تفلسف في هذه العلوم دون سابق ممارسة وحذق، إنما اطلاعه عليها من باب التبسيط العلمي، يوشك أن يكون بناؤه على غير أساس، ما له من قرار ولا رسوخ. أما من حصل عليها ولم يبلغ مرحلة التأمل في ما يجمع شتاتها ليرجعها للأصل الموحد لها، وللسنن المتحكمة فيها، فهذا ما ارتقى نظره عن مرحلة الوصف والتبسيط، وما بنى نظرية تمكنه من استنباط المجهول من المعلوم من الحقائق، ولن يتأت له بالتالي أي تطبيق تكنولوجي تسخيري للكون يؤكد صحة ما عثر عليه من سنن كونية ثابتة.
أما معارج الذكر وطلب الحقيقة الوجدانية، فينبغي تحصينها من كمائن الشيطان والنفس والهوى المحفوفة بالخرافات والشركيات والفتوحات الظلمانية. بابها الوحيد: الشريعة والتعمق في أسرارها بفهم يقذفه الله في قلوب أصفيائه. فالحق حق، والخلق خلق. ومن تحقق دون أن يتشرع فقد تزندق ومن تشرع دون أن يتحقق فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد توفق، كما يقول الإمام مالك رضي الله عنه.
وبعث العقل المسلم المتحقق في معارج الفكر والذكر من شروط الاستخلاف الذي يبسط العدل الشمولي. والقصد بالعدل الشمولى ذلك الحكم الذي يراعي قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة. قوانين الطبيعة تمكننا من قوة الوسائل الاستخلافية المادية، وقوانين الشريعة ترسم لنا المقاصد والقيم والغايات. وتلك هي البيئة الثقافية سيترعرع فيها مشروع الخلافة الراشدة التي يرضى عنها ساكن الأرض وساكن السماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق